سورة يس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


قلت: {اضرب}: يكون بمعنى: اجعل، فيتعدى إلى مفعولين، و {مَثَلاً}: مفعول أول، و{أصحاب} مفعول ثان، أو: بمعنى: مثل، من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي: من هذا المثال. و {أصحاب}: بدل من مَثَلاً، وإذ: بجل من {أصحاب}. و {أَئِن ذُكِّرتُم}: شرط، حُذف جوابه.
يقول الحق جلّ جلاله: {وَاضْرِبْ لهم} أي: لقريش {مَثلاً أصحابَ القرية} أي: واضرب لهم مثل أصحاب لهم مثل أصحاب القرية أنطاكية أي: اذكر لهم قصة عجيبة؛ قصة أصحاب القرية، {إِذ جاءها} أي: حين جاءها {المرسلون} رُسل عيسى عليه السلام، بعثهم دعاةً إلى الحق، إلى أهل أنطاكية. وكانوا عبدة أوثان.
{إِذ أرسلنا}: بدل من {إذ} الأولى، أي: إذ بعثنا {إِليهم اثنين} بعثهما عيسى عليه السلام، وهما يوحنا وبولس، أو: صادقاً وصدوقاً، أو غيرهما. فلما قربا إلى المدينة، رأيا شيخاً يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار، فسأل عن حالهما، فقالا: نحن رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن؟ فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض، ونُبرىء الأكمه والأبرص، وكان له ابن مريض منذ سنين، فمسحاه، فقام، فآمن حبيب، وفشا الخبر، فَشُفِي على أيديهما خلق كثير، فدعاهما الملك، وقال: ألنا إِلهٌ سوى آلهتنا؟ فقالا: نعم، مَن أوجدك وآلهتك، فقال: قُوما حتى أنظر في أمركما، فحبسهما.
ثم بعث عيسى عليه السلام شمعونَ، فدخل متنكراً، وعاشر حاشية الملك، حتى استأنسوا به، ورفعوا خبره إلى الملك، فاستأنس به. فقال له ذات يوم: بلغني أنك حبستَ رجلين، فهل سمعتَ قولهما؟ قال: لا، فدعاهما. فقال شمعون: مَن أرسلكما؟ فقالا: الله الذي خَلَق كل شيء، ورَزَق كل حيّ، وليس له شريك. فقال: صِفاه وأوجزا، فقالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنّى الملك، فدعا بغلام أكمه، فدعَوا الله، فأبصر الغلامُ، فقال شمعون للملك: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا، فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سرٌّ، إن إلهنا لا يُبصر ولا يَسمع، ولا يضر، ولا ينفع. فقال: إِنْ قدر إلاهكما على إحياء ميّت آمنا، فدعَوا بغلام مات منذ سبعة أيام، فقام، فقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار لِمَا مت عليه من الشرك، وأنا أُحذّركم ما أنتم عليه! فآمِنوا. قال: وفُتحت أبواب السماء، فرأيت شابّاً حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: مَن هم؟ قال: شمعون وهذان، فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أن قوله أثّر فيه، نصَحه وآمن، وآمن قوم، ومَن لم يؤمن صاح عليهم جبريل، فهلكوا.
كما سيذكره بقوله: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.
وهذا معنى قوله هنا: {فَكذَّبُوهُما} أي: فكذّب أصحابُ القرية المرسلين، {فعَزَّزْنَا}: قويناهما. وقرأ شعبة بالتخفيف، من: عزّه: غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا {بثالثٍ} وهو شمعون، وترك ذكر المفعول به؛ لأنَّ المراد ذكر المعزّز به، وهو شمعون، وما لطف به من التدبير حتى عزّ الحق، وذلّ الباطل. وإذا كان الكلامُ مُنصبًّا إلى غرض من الأغرض جُعل سياقه له وتوجُّهه إليه كأنما سواه مرفوض. {فقالوا} أي: الثلاثة لأهلِ القرية: {إِنا إِليكم مُرْسَلُونَ} من عند عيسى، الذي هو من عند الله. وقيل: كانوا أنبياء من عند الله عزّ وجل أرسلهم إلى قرية، ويرجحه قول الكفرة: {ما أنتم إِلا بشرٌ مثلُنا} إذ هذه محاورة إنما تقال لمَن ادعى الرسالة، أي: ما أنتم إلا بشر، ولا مزية لكم علينا، {وما أنزلَ الرحمنُ من شيءٍ} أي: وحياً، {إِن أنتم إِلا تكْذِبون} فيما تدعون من الرسالة. {قالوا ربُّنا يعلمُ إِنا إِليكم لمرسَلون} أكَّد الثاني باللام دون الأول؛ لأن الأول مجرد إخبار، والثاني جواب عن إنكار، فيحتاج إلى زيادة تأكيد. و{ربنا يعلم} جارٍ مجرى القسم في التأكيد، وكذلك قولهم: شَهِد الله، وعَلِمَ اللهُ. {وما علينا إِلا البلاغُ المبينُ} أي: التبليغ الظاهر، المكشوف بالآيات الظاهرة الشاهدة بصحته.
{قالوا إِنا تَطَيَّرْنا بكم} تشاءمنا بكم. وذلك أنهم كرهوا دينهم، ونفرت منه نفوسهم. وعادة الجهّال أن يتيمّنوا بكل شيء مالوا إليه، وَقَبِلَتْهُ طباعُهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة، قالوا: بشؤم هذا، وبركة ذلك. وقيل: حبس عنهم المطر، فقالوا ذلك. وقيل: ظهر فيهم الجذام، وقيل: اختلفت كلماتهم. ثم قالوا لهم: {لئن لم تَنْتَهوا} عن مقالتكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُم} لنقتلنكم بالحجارة، أو: لنطردنّكم، أو: لنشتمنكم، {وَلَيَمَسَّنكم منا عذابٌ أليم} وليصيبنّكم منا عذاب الحريق، وهو أشد العذاب.
{قالوا} أي: الرسل {طائِرُكُم} سبب شؤمكم {معكم} وهو الكفر، {أَئِن ذُكِّرتُم} أي: وُعظتم، ودُعيتم إلى الإسلام تطيّرتم، وقلتم ما قلتم، {بل أنتم قوم مُّسْرِفُون} مجاوزون الحد في العصيان، فمن ثَمَّ أتاكم الشؤم، لا من قِبَلِ الرسل. أو: بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم وغيّكم، حيث تتشاءمون بمَن يجب التبرُّك به من رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
الإشارة: إذا أرسل الله إلى قلب وليٍّ وارداً أولاً، ثم شكّ فيه، وَدَفَعَهُ، ثم أرسل ثانياً وَدَفَعَه، ثم عزّزه بثالث، وجب تصديقه والعمل بما يقول، وإلا وقع في العنت وسوء الأدب؛ لأن القلب إذا صفى من الأكدار لا يتجلّى فيه إلا الحق، وإلا وجب اتهامه، حتى يتبين وجهه. وباقي الآية فيه تسلية لمن قُوبل بالتكذيب من الأولياء والصالحين. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {وجاء من أقصى المدينةِ رجل يسعى} وهو حبيب النجار، وكان في غارٍ من الجبل يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم، وأظهر دينه. قال القشيري: في القصة أنه جاء من قرية فسمَّاها مدينة، وقال: من أقصاها، ولم يكن بينهما تفاوت كثير، وكذلك أجرى سُنَّته في استكثار القليل من فِعْلِ عَبْدِه، إذا كان يرضاه، ويستنزِرُ الكثيرَ من فضله إذا بَذَلَه وأعطاه. اهـ.
ولما قَدِم سألهم: أتطلبون على ما تقولون أجراً؟ فقالوا: لا، {قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا مَن لا يسأَلُكُم أجراً} على تبليغ الرسالة {وهم مهتدون} على جادة الهداية والنصح وتبليغ الرسالة. فقالوا: وأنت على دين هؤلاء؟ فقال: {وما لي لا أعبدُ الذي فطرني}: خلقني {وإِليه تُرجعون} وفيه التفات من التكلُّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع. والتحقيق: أن المراد: ما لكم لا تعبدون، لكن لمّا عبَّر عنهم بطريق التكلُّم؛ تلطّف في الإرشاد، بإيراده في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد لها، جرى على ذلك في قوله: {وإليه ترجعون} والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره.
ثم قال: {أأتخذُ من دونه آلهةً} يعني الأصنام، {إِن يُرِدْنِ الرحمنُ بضُرٍّ} وهو شرطٌ جوابه: {لا تُغْنِ عني شفاعَتُهم شيئاً ولا يُنقِذُون} من مكروه بالنصر والمظاهرة، {إِني إِذاً} أي: إذا اتخذت إلهاً غيره {لفي ضلالٍ مبين} لفي خطأ بيّن، لا يخفى على عاقل، {إِني آمنتُ بربكم فاسمَعُون} أي: اسمعوا إيماني، لتشهدوا به لي يوم القيامة، فقتله قومُه.
ولمَّا مات {قيل} له: {ادخُلِ الجنةَ} فدُفن في أنطاكية، وقبره بها. ولم يقل: قيل له؛ لأن الكلام مسوق لبيان القول، لا لبيان المقول له؛ لكونه معلوماً. وفيه دلالة على أن الجنة مخلوقة الآن. وقال الحسن: لَمَّا أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله، فهو في الجنة، ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض، فلما دخل الجنة ورأى نِعَمَهَا، وما أعدّ الله لأهل الإيمان، {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفرَ لي ربي} أي: بالسبب الذي غفر لي ربي به، {وجعلني من المكرمين} بالجنة، وهو الإيمان بالله ورسله، أو: بمغفرة ربي وإكرامي، ف ما: موصولة، حُذف عائدها المجرور، لكونه جُرّ بما جُرّ به الموصول، أو: مصدرية، وقيل: استفهامية. ورُدّ بعدم حذف ألفها.
قال الكواشي: تمنى أن يعلم قومُه أنَّ الله قد غفر له، وأكرمه، ليرغب قومُه في اتباع الرسل، فيُسلموا، فنصح قومَه حيًّا وميتاً. وكذلك ينبغي أن يكون كل داع إلى الله تعالى، في المجاهدة والنصيحة لعباد الله، وألاَّ يحقد عليهم إن آذوه، وأن يكظّم كل غيظ يناله بسببهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سُبَّاق الأمم ثلاثة: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون». اهـ.
قال القشيري: قد أَبْلَغَ حبيب الوَعْظَ، وصَدَقَ النُّصْح، ولكن كما قالوا وأنشدوا:
وكم سُقْتُ في آثارِكم من نصيحةٍ *** وقد يستفيد البغةَ المتنصِّحُ
فلمَّا صَدَقَ في حاله، وصَبَرَ على ما لَقِيَ من قومه، ورجع إلى ربه، تلقَّاه بحسن إقباله، وآواه إلى كنف إفضاله، ووجد ما وعده به من لُطْفِ نواله، فتَمنَّى أنْ يعلم قومُه حاله، فَحَقَّقَ مُناة، وأخبر عن حاله، وأنزل فيه خطابه، وعَرَفَ قومُه. اهـ.
الإشارة: أحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وأنصحهم لهم. وفي الحديث: «لئن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النِّعَم» فينبغي لمَن أراد الظفر بمحبة الحبيب، وينال منه الحظوة والتقريب، أن يتحمّل المشاق في إرشاد عباد الله، ويستعمل الأسفار في ذلك، لينال عنده الجاه الكبير، والقُرب العظيم. حققنا الله بذلك بمنِّه وكرمه.


يقول الحق جلّ جلاله: {وما أنزلنا على قومه من بعده} أي: من بعد قتله، أو رفعه {من جُندٍ من السماء} فيهلكهم، {وما كنا مُنزِلينَ} وما كان يصحّ في حكمنا في إهلاك قوم أن نُنزل عليهم جنداً من السماء، كما فعلنا معك يوم بدر والخندق؛ لحظوتك عندنا. وفيه تحقير لإهلاكهم، وتعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الكشاف: فإن قلت: لِمَ أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق، مع أنه كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة؟ قلت: لأن الله فضَّل محمداً صلى الله عليه وسلم بكل شيء، على كبار الأنبياء وأولي العزم، فضلاً عن حبيب النجار. اهـ. ملخصاً. {إِن كانت} العقوبة {إِلا صيحةً واحدةً} صاح عليهم جبريل عليه السلام {فإِذا هم خامِدُون} ميتون.
الإشارة: كل وعيد ورد في مُكذِّبي الرسل يجر ذيله على مُكذِّبي الأولياء؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، إلا أن عقوبة مؤذي الأولياء، تارة تكون ظاهرة، في الأبدان والأموال، وتارة باطنة، في قسوة القلوب والتعويق عن صالح الأعمال، وكسْف نور الإيمان والإسلام، والبُعد وسوء الختام، وهي الحسرة العظمى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7